رأيت ''عزرائيل'' في مستشفى الفقراء !!
لم اعهد في والدي وجعا كما في الخامسة من صباح الخميس الماضي حين هاتفني بصوت محزون ,لم أستبن منه غير مفردات بسيطة فحواها ان الألم يمزق أحشاءه.. اصطحبته الى مستشفى البشير ,ومن الباطني الى الجراحة الى المختبر الى العينات وفحص الدم ,هو يلهج بالدعاء والحمد والأطباء يسألونه ويجرون الفحوصات المطلوبة وأزعم كما هي في مايو كلينك, رغم اني لست من نزلائه فانا ووالدي لا نملك تأمينا الا في مستشفيات الفقراء,وفيها أطلت ميس و شقيقها القسام على الدنيا . رافقته وبقيت الى جواره , وفي حدود العاشرة أطفئت الأنوار ,فأرخى ليل طويل لا يعرف سره إلا الباري أستاره.
***
في السرير المجاور جلس شاب لم يتجاوز الأربعين صامتا ووحيدا,ولديه كل الأسباب ليحيا غدا ولكنها المنايا لا ترجىء عمرا ولا تمنح وقتا للفقراء ليكتبوا وصاياهم,فكما جاءوا يذهبون دون جلبة وربما دون إعلان ومنذ متى كان الموت معلنا ؟وهو سر الأسرار وأكثرها غموضا . ناداه المنادي فهزت صرخته الأولى الأركان ولم يمض وقت حتى كانت زفراته الثلاث كشظايا اللهب تتوزعها أرجاء الحجرة ,فقد جاء ملك الموت وما هي الا هنيهة حتى غادر الموكل بقبض أرواح العالمين المكان تاركا خلفه الوجوم .
****
يصمت أبي وينام,وأتجاوز الموت الى الحياة التي اعرف أنها زائلة ولكني أحبها ويعاودني الانشغال بالأسئلة :لماذا نعتدي على الأطباء وهل الاعتداء على الطبيب ينفصل عن سياقات العنف في الشارع والجامعات ؟ لم يبق مستشفى في الأردن الا واعتدي فيه على طبيب أو ممرض ولم يسلم المعلمون من اعتداء أولياء أمور الطلبة ولم يتوقف العنف في الجامعات وكذلك المشاجرات العشائرية ,اضافة الى جرائم القتل والانتحار التي لا تكاد إخبارها تغيب عن المواقع الالكترونية حتى تعود مرة أخرى فزوج يخنق زوجته ويلقيها قرب الدوار السابع وطالب يطعن زميله بالسكين وامام مسجد يغادر رحاب الرحمن ليجد نفسه أمام قاتله وفي انتظاره أربع رصاصات وحدث يقتل شقيقه في الجاردنز والقائمة تطول..
هل أصبح العنف جزءا من بنيتنا الثقافية الاجتماعية ولم نعد نتردد في التحرر من الضوابط الأخلاقية لأتفه الأسباب,أم أن ما يحدث هو مزاج عابر .! ان كان مزاجا عابرا فالقانون المعدل لقانون العقوبات لسنة 2010سيحل المشكلة لأنه ينص على تحويل قضايا الاعتداء على الموظف العام من طبيب أو معلم أو شرطي الى اختصاص محكمة الجنايات الكبرى وتغليظ العقوبات .
***
ما أخشاه إن بدأنا بتشديد العقوبات ,فأن المرشحين للمجلس النيابي القادم سيعدون الناخبين بتوسيع السجون فقد تصبح سرقة الكهرباء في المناطق الفقيرة ظاهرة ويشكل لها مجلس الوزراء لجنة كما هي اللجنة التي اعلن عنها لدراسة العنف المجتمعي ولاحقا تحويل المتهمين الى الجنايات الكبرى وهكذا دواليك في قضايا اخرى ان أصر البنك الدولي على زيادة الضرائب كما تقول الأخبار..والله المستعان .
***
الى أبي: ليسامحني أبي فقد أخفيت عنه مرضه ,وفي كل يوم أقدم له وعدا بان نعود إلى البيت ,ليطل على شتلات الخبيزة التي يعشقها وعلى وجه أمي التي لا تتوقف عن السؤال متى يعود والدك؟ لا أحد يا أمي يقدم وعدا للحياة أو الموت ..ولكنها شتلات النعناع والفلة بجوار المدخل والقرنفلة وأشجار الحاكورة تقول بان الغائب سيعود.